قصة اصطفاء الله عزوجل مريم بنت عمران عليها السلام

سأتناول في هذه القصة الى جانب اصطفاء الله تعالى لمريم عليها السلام قصة مولد كل من يحيي وعيسى عليهم السلام .

قبل أن أخوض في هذه القصة المعجزة, أود أن أحيط القراء الكرام أنّ القرآن الكريم لم يذكر امرأة باسمها على الاطلاق سوى اسم مريم عليها السلام, وقد ذكر اسمها في نحو 30 موضعا, وبخصوص ورود ذكر عيسى عليه السلام منسوبا الى أمه, فانّ الله تبارك وتعالى أراد بذلك أن يشعر القلوب بنفي أبوة الله عزوجل له عليه السلام, كما ادعت النصارى لعائن الله عليهم, وليشعر القلوب بنزاهة الأم الطاهرة المطهرة عليها السلام عن مقالة اليهود.

وردت هذه القصة في سورتي آل عمران وأكملت في سورة مريم, ففي سورة آل عمران يقول المولى عزّوجل:

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
وفي سورة مريم يقول المولى تبارك وتعالى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً
ذكرت الروايات التاريخية أنّ والد مريم عليها السلام هو عمران بن أثان وأمها حنة , وينحدران من أسرة مشهود لها بالتقوى والصلاح, فشقيقتها اليا هي زوجة النبي زكريا عليه السلام, وبذلك يكون زكريا زوج خالة مريم عليهما السلام, وشاءت ارادة المولى تبارك وتعالى أن تعيش الأختان حنا وليا فترة من الزمن عاقرتان لا تنجبان, مما ترك هذا الأمر أثرا في نفوسهنّ تغلبن عليه بالتضرع الى الله تعالى والتعبّد الى الله عزوجل تتهجدان طيلة ليلهنّ تعبدا بضراعة وشفاعة وكل منهنّ تسأل مولاها في أن يمنّ الله عليهنّ بالذرية الطيبة.

وتشاء ارادة المولى سبحانه وتعالى لحنة امرأة عمران بالحمل الذي جلا عن نفسها كل هم وغم وحزن ليغمر قلبها بالفرح الذي كللته الابتسامة على وجهها والشكر والحمد على منطوق لسانها... لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ... فخرّت ساجدة لله تعالى حمدا وشكرا على انعامه وتفضله عليها, ونذرت لأن تهب مولودها في خدمة الهيكل خالصا لوجه الله تعالى الكريم, وقد عبّر القرآن عن هذا الشكر والعرفان بقوله عزوجل:

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

وتمرّ أيام الحمل على السيدة العابدة المتبتلة الوثقية الصلة بخالقها عزوجل, والجنين في أحشاءها ينمو مع كل تلك الروحانية المطلقة والطمأنينة تخيّم على جميع مناحي المكان من حولها... وتقتضي سنة الله في خلقه أن يختار الله عمران الزوج الحنون والرؤوم الى جواره.

مولد مريم العذراء عليها السلام

ويأذن الله للأم الصابرة حنة زوجة عمربان تضع حملها في مدينة الناصرة بفلسطين وتكون أنثى وتطلق عليها مريم اسما, وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا بقوله تعالى: اني وضعتها أنثى* وليس الذكر كالأنثى* واني سميتها مريم* واني أعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم

استسلام مطلق لله تعالى لو فعلنه نساء العالمين وحذون حذوها لغدون بألف نعمة ومنّة من الله, انها تدعو الله أن يحفظ لها ابنتها من همزات الشياطين ونفخها ونفثها, وبمجرّد ولادتها حملتها أمها وهي في لفائفها الى الهيكل, وكانت أمها وخالتها تتناوبان على خدمتها بين حين وآخر وكل واحدة منهنّ ترعاها بطريقتها, على حين زكريا عليه السلام زوج خالتها لم يكن ليبرحها من صباح أو مساء, خاصة وهو يراها سلواه كتعويض عن النقص الذي يعتريه من حرمان الولد.. وسبحان الله تعالى في ارادته وحكمته, وسبحان الذي خلق كلّ شيء بمقدار.
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا بقوله تبارك وتعالى:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً
واتخذ زكريا عليه السلام لنفسه مكانا في الهيكل ليكون قريبا منها, حتي اشتد عودها واكتملت حسنا وأنوثة, تفتحت أكمام زهرة ايمانها لتفوح عبيرا طيبا.

ذات مرّة دخل عليها زكريا عليهما السلام فوجد عندها ثمارا وفاكهة شتى منها ماكان في موسمه ومنه بغير موسمه, جعله يسألها سؤال عجب : يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا أجابته: هو من عند , إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ... فما كان منه عليه السلام الا أن رفع كلتا يديه السماء قائلا: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً .

ولأن الله يستجيب لأولياءه الصالحين فقد استجاب له سبحانه وتعالى وأوحى اليه أن: يا زكريا انا نبشرّك بغلام اسمه يحيي لم نجعل له من قبل سميّا

هكذا تلقى زكريا البشرى من الله عزوجل, ثم قال وكيف لي بالولد وأنت تعلم يا ربّ أنّ امرأتي مسنة هرمة ولا تنجب , وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا فقال: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ....وما أن تلقى الاجابة من السماء بقوله تعالى: قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً .... حتى خرّ ساجدا في سجدة طويلة تكتنفها الدموع الحرّة لتبلل لحيته ومكان سجوده, وما أن رفع رأسه حتى طلب من الله أن يؤيده بآية من عنده كعلامة ودلاله للناس من حوله , وهذا ما عبّر عنه القرآن بقوله تعالى: : قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً .... فتأتيه الاجابة من السماء بقوله تعالى: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً
كل تلك الأحداث وزكريا لا يزال في محراب مريم عليهما السلام, ثم خرج من المحراب على قومه لينقل لهم شأن المعجزة الالهية التي أولاه الله اياها, وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
هكذا دائما المولى الحنان المنان يجيب دعوة المضطر اذا دعاه لعلمه المسبق بصدق الدعاء, وصدق النيّة, ولأنه سبحانه وتعالى هو المتفضل على عباده, والكريم الواسع مفوضا أمره الى الله تعالى الواحد القهار سبحانه وتعالى القاهر فوق عباده, وهذا هو منهج الصابرين على الابتلاء كما في قوله تعالى:

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ

مولد يحيي عليه السلام

وأطلّ المولود المبارك المعصوم من الذنوب والذي سمّاه الله عزوجل يحيي بنفسه الجليلة, يقول الله تعالى:

فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ ومعنى حصورا: أي معصوما من الذنب, ومعنى:لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً: أي لم يسمى أحدا قبله بهذا الاسم, ويحيي عليه السلام هو العبد الوحيد الذي نال هذه الكرامة من الله تبارك وتعالى بأن سمّاه بنفسه وقد كلفه الله تبارك وتعالى بالرسالة منذ ولادته بقوله: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (12) وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً (13) وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً (15)
نعود الى متابعة قصة مريم عليها السلام التي بقيت في عزلتها عن الناس في محرابها تؤدّي فرائض ربّها بالعبادة والخدمة, لايهمها شيء من دنياها الا رضا الله تبارك وتعالى, خاصة وقد توافرت لها جميع أسباب الرعاية الربانية من كل وجوهها تفيض عليها باليمن والخير والبركات.

حمل مريم ب عيسى عليهما السلام

وذات يوم, وهي في عزلتها عن الناس تعبدا لله تعالى اذ أتاها جبريل عليه السلام بهيئة رجل, الأمر الذي جعلها تغفل لحركة من خلفها وهي لا تعلم كيف اقتحم عليها وحدتها وخلوتها مع نفسها تناجي مولاها تبارك وتعالى, فألهمها الله تعالى لأن تستعيذ بالله منه, وهذا ما عبّر عنه القرآن بقوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً (21)
كلمات جليلات عظيمات واضحات تشرح نفسها بنفسها, ومعنى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً أي حتى وان كنت تقيا, كيف دخلت الى هنا ومن تكون؟ فخفف جبريل من روعها وشرح لها أنه رسول من الله تعالى ليهب لها غلاما سيكون له شأن عظيم في الأولين والآخرين... وأنه مأمور من الله تعالى ولا يستطيع أن يغادرها قبل أن ينهي المهمة الموكلة اليه من قبل المولى عزوجل, لقد كان علمها بأمر الغلام أشد بلوى ومصيبة عليها من وطأة وجوده معها, ولكن عندماأخبرها بأنّ ما هي فيه انما مرهون بأمر الله مذ خلق السموات والأرض, ومكتوب في اللوح المحفوظ , فما كان أمام هذه الحقيقة الا الاستسلام لأمر الله, وأدى جبريل المهمة الموكلة اليه, وبلغ الرسالة وأدى الأمانة على أكمل وجه , ثم غاب عن ناظري مريم ليتركها في دوامة لا حدود لها فينتابها الوسواس , ويعتري الخوف جوانبها, خاصة وهي الطاهرة المطهرة العفيفة البتول, العابدة الطائعة الصديقة المخلصة لله الصالحة ,هكذا عرفها الناس من حولها.مولد عيسى عليه السلام

وهكذا كلما تخيّلت الواقعة تحاول نسيان ما حدث بالدعاء الى الله تعالى وكلها ثقة به سبحانه وتعالى أنه سيخلصها مما فيه بحكمته العادلة, فاستسلمت لأمر مشيئته وهي آمنة مطمئنة حتى اذا حان الوعد, خرجت من مدينة القدس الى مدينة الناصرة مسقط رأسها , وهناك وفي بيت ريفي اعتزلت الناس وهي تدّعي المرض فرارا من رؤية الناس لسترة بطنها, وما أن حل اليوم الموعود بخروج الطفل الى الدنيا حتى استعدت للأمر الجلل, فخرجت من عزلتها ووحدتها وقد أسلمت نفسها لله تعالى فقادتها قدماها الى مكان مقفر بجوار نخلة يابسة, وما أن جلست اليها حتى فقدت كل قدرة عن الحركة وهي لا تعلم أنها تعاني من آلام المخاض, والتي أعقبتها ميلاد ابنها عيسى عليه السلام.
قصة اصطفاء الله عزوجل مريم بنت عمران عليها السلام
 

Post a Comment

أحدث أقدم